ناديا … و أبناء الشمس ( 1 )


 

zaporizhzhya1

إنه يومٌ شديدُ البرودة … هكذا أخبرتني أولَ لفحّةَ هواءٍ تلقيتها و أنا أهمّ بمغادرة سيارتي .. بإتجاهِ المبنّى اليتيم القابع برضوخٍ في تلك المنطقة النائية .. المتعلقة بعنادٍ بِرحم هذا الوطن .

الطقس في غرفتي ذلك اليوم , لم يكن بأفضل حالٍ منه و الطقس في الخارج …. إذ غافلنا البرد قبل أن نستعد له , فكان الخلط علينا واضح .. أيهما أكثر دفئاً , خارج المبنى أم داخله ؟! .

كما في كل شتاءٍ , لم أكنّ في أفضّل أحوالي النفسية و المعنوية , و كما في كل يومٍ قضيته في الوطن و منذ بضعُ سنين حمقاء لم تكن هيّ أفضّل أيامّي العملية . لا جديد أشتكي منه أو أبوح به لكم ؟؟.. فقديمي يكفي و زيادة ..

لكنه التراخيّ و التساهل , الذي يجعلني أسمح لذاكرتي القريبة و ( المقموعة من قبلي بعنف ) بينّ الحينِ و الآخر بالطفو على سطح الواقع , فا أسمح لها بسرّدِ و تعداد مُحصلة الخيبات التي تلقيتها , و الكمّ الهائل من الإحباطات المنهكة حقيقةً لأعتى الرجال , بل و المٌضنية , نعم منذ أن وطئت قدامي أرض الوطن ذات يومِ بارد نحس غافلني و أردى بيّ على مذبح الحنين الغادر .

صَدف أنه اليوم , حيث أخرجت به دفتر أفكاري المضطربة دون قصد , و أخذت أقلّب بعض لفائف الذاكرة المطوية بدفئ الماضي المسروق عنوة ….

لم أستطع الجلوس .. و لا حتى الوقوف .. ربما بسبب البرد و ربما لأسبابٍ غير ما ذكرت …… لستُ متأكدٌ بعد .

خائنة الذاكرة .. كما خائنة الأعين … تأتي بلا إستئذان … الأولى تطرق باب الماضي الجميل و الخبيث على حدِ سواء .. أمّا الأخرى , و أقصد خائنة الأعين , فهي بلا شك باب الشهوة و الرغبة … و بعض أحلام اليقظة و الكثير من الفوضى و الحماقات و روح السلام .

*********************

تذكرّتُ كلام معلمتي في مادتّي الكيمياء الحيوية و علم المناعة . هي تحمل باقة من الألقاب العلمية ما يكفي لنصف شرفاء العلم في وطني الصغير .. يكللها لقب برفسور … نعم هي الـ برفسور [ ناديجدا فاسيلفنا ] … و لمن لم يخبر شعب الشمال … فكل ( ناديجدا ) هي ناديا

ناديا : امراءة واضحة البدانة تجاوزت عنها صفة الإكتناز منذ كم من الشحوم و الدهون التي تراكمت رغماً عن أنف صاحبتها على مدى سنين و عامات فأصبحت بدانة مفرطة .

هي : لا تعترف بالأناقة و حسن المظهر و تصفيف الشعر و العناية بالأظافر , لو صدفتها في الشارع لما فّرقتها عن أي مشردة من اللواتي يجبن الشوارع بحثاً عمّا يأكلنه . تعرفها فقط إن سئلتها عن أحد الأمراض ذات المنشأ المناعي … تواً سيتفجر أمامك بركان من المعلومات و الشرح و الإنفعالات العلمية و المعرفية المجنونة بثقة … مصحوبة بالكثير من الكتابات و الرسومات و الشروح المعزوفة على أقرب لوح كتابة تجده . و إن لم تجد , ستستل مافي يدك من كتب أو دفاتر دون إستئذان و تبدأ العزف على لحن القلم و العلم .

*********************

 

zaporizhzhya2

في إحدى تلك الأيام الكانونية ( يناير ) حيث البرودة لا توصف في بلاد الشمال تلك , وعلى ضفاف نهر الـ ( دينبرو ) العظيم تحديداً , جلستُ في غرفتي الدافئة التي تتموضع في الطابق الثاني من المشفى الإقليمي الضخم , جلست صامتاً و أنا المشهود له بالحيوية الشرقية التي لا تنضب , كان قد مر عليّ عدة أشهر و ليست أيام , لم أرى فيها نور الشمس … رأتني جالساً و قد نحيتّ المَجهر [ ميكروسكوب ] و مجموعة الشرائح الزجاجية و بيدرٌ من الملفات جانباً .. بعد أن وضعت رأسي بين راحتيّ يديّ صامتاً … أنظر من خلال النافذة الواسعة ذات الزجاج السميك و المزدوج إلى الأشجار الضخمة المحيطة بالمبنى و المكللة بثلوج قد مر على تربعها قمم الأشجار و خواصرها عدة أشهر دون كلل أو ملل .

قالت : { سيري فولغ } و تعني الذئب الرمادي — هكذا كانت تلقبني و أبناء جلدتي من أحفاد يعرب , ممن صدف و درسوا و تتلمذوا على يديها …

سيري فولغ يا صغيري .. أنتم أبناء الشمس … قوتكم … مرحكم … عاطفتكم حبكم .. كراهيتكم …. منبثقة من رَحم الشمس … إن حضرت أمكم الشمس حضرتم … و إن غابت .. غبتم و حزنتمْ …

لا تجزع يا بنيّ ستبزغ الشمس و يزول حزنك …. تتابع قائلةً بحيوية ملحوظة : أتعلم … بلادنا الكئيبة لا تناسبكم … ثم تضحك بألم ممزوج بالسخرية .. بل و أنها حتى لا تناسبنا … إنها لا تناسب أحد ؟! .

تقفز ( ناديا ) فوق البوح برشاقة و تبدأ بشرح الحزن و الفرح من وجهة نظر إختصاصها , فتحدثني عن هرمون السعادة و المرح [ هرمون السيروتونين ] و كيفية عمله و آلية تأثريه على أمزجة البشر … ثم تقفز مرة أخرى .. لكن فوق العلم و المنطق البحثيّ , لتحدثني عن عطارد و المريخ و تأثيرهما على برج العذراء { برجي و برجها , و برج برفسور آخر – دخل خلفها } … و هو ( فاسيلي ديمتريفيتش ) .. الذي ما أن إلتقط صِوان أذنه حديثٌ عن ( برج العذراء )… حتى جرني من يدي كصديق قديم من أترابه , و أخذني إلى مكتبه ليعطيني قصاصة من جريدة حديثة تتحدث عن الأبراج الصينية , مرفوقاً بكوبٍ كبيرٍ من شراب الشوكولا الساخن .. ثم عدنا سويتا إلى مكتبي حيث مازالت البرفسور ( ناديا ) جالسة …

ضحكت في سري كثيراً من تصرف هذين العالمين العجوزين , المشهود لهما بالعلم و الإكتشاف .. كيف يتحدثان عن الأبراج و تأثيرها … لم يكن مني سوى مسايرتهما …. و كلي رجاء و أمل أن لا يتحدثوا عن السحر و الشعوذة .. و إن فعلوا .. فلن أستغرب ؟!

*********************

جلستْ بجواري و همست في أذني … عودوا إلى الشمس .. عودوا إلى أمكم … و هناك تحت أشعتها الحمراء الحارقة تقاتلوا .. و إسفكوا الدماء غزيرة , من أجل صخرة جرداء هنا أو هناك حيث لا ينبت فيها زرعٌ و لا يدرُّ فيها ضرع .. و التي تسمونها بقعة من وطن ؟!

نظرت إلى عينيها باحثاً عمّا ترمي إليه خريفية العمر هذه ؟؟؟ لم أجد سوى دمعة صغيرة أخذتْ تتشكل على حافة مقلتها , قبل أن تغافل صاحبتها و تسقط على ساعدها الأيسر الذي طوق أخيه الأيمن أمام صدرها .. لم تكن تسخر منيّ و أهلي كما خيُّل إليّ للوهلة الأولى …

مسحت دمعتها بباطن إصبعها الصغير .. و قالت : أعجبُ منكم … أنتم أيها الذئاب الرمادية أبناء الشمس … كمّ تحبون أرضكم و عِرضكم … كمّ مرة غسلتموها بدماءكم وعلى مر العصور . لم أسمع بغازٍ أو مُحتل طامح أو مُغامرٌ أرعن , إلاّ و قد مرّ بأرضكم .. و أنتم .. تقاتلون .. ثمّ تقاتلون .. فتَقتلون و تُقتلون على حوافِ صخوركم المسماة أوطان و صحاريكم التي خلت إلاّ من بضعُ ثعابين و الكثير من الذئاب الرمادية …

لطالما تساءلتُ … هي تقول … من أجل هذه الصحاري الجرداء و البراري القفار … سفكوا دماً يوازي حجم ترابها .. فماذا سيفعلون لو كانت لديهم غاباتنا الشاسعة و أنهارنا الغزيرة و بحيراتنا المترامية و شطئآن بحارنا الخلابة ….  أمطارنا التي لا تنضب و ثلوجنا الطافحة حتى الثمالة و جمال فتياتنا الباهر ؟؟؟؟ كمّ أحسدكم و غيرتكم يا أبناء الشمس … سلالة الخيول الجامحة ؟!

ضحكتُ في سرّي و قلت لنفسي … يا سبحان الله .. حتى على حروبنا و قتالنا يحسدوننا …

*********************

أرادتْ هي أن تغيّر مجرى الحديث … فنظرتْ إليّ بمرح مُصّطنع و قالت : رجال العرب .. أجمل من نساءها بكثير … لقد قمت بتدريس الكثير منكم و هذا ما لحظته .. أليس صحيحاً كلامي !!

قلت : أنتِ شاهدتي الكثير الكثير من الطلاب العرب و كأي ( فتاة ) طموحة لم تتذكري سوى الوسيم منهم , و قمتِ بتعميم الوصف الجميل … لكنكِ لم تشاهدي سوى نزرٌ يسير من الطالبات الشرقيات قد لا يتجاوز عددهّن أصابع اليدين … و هنّ لا يعبّرن عن جمال نساء العرب … جميلاتنا غوالي .. لا نريّهن لكم و لا لغيركم … هنّ أغلى من أن نرسلهّن ليبردنَ عندكم … مكانهن بين أشعة الشمس الحمراء و قلوب الرجال السمراء

أيها اللئيم المتحاذق … و هل شقراوتنا رخيصات فلا تسكنوهّن قلوبكم السمراء … ضحكتْ هيّ بعد ربتت على كتفي بحنان الأمومة الصادق

سيدتي : قلوبنا تتسع للجميع .. لكننا نحن خٌلقنا هكذا نغني للسمراء و شعرها الأسود … الفاحم … و عيونها البنية … نغنّي لها و لصفاتٍ وهبتها لها أمها الشمس كما تقولين , و الخالق العظيم كما نقول نحن .. فكانت فرسٌ , أو غزال , أو جمل , أو شجرة حور … و هيفاءٌ و سناءٌ و الكثير من الصفاتِ الحِسان … فماذا وهبت لكم شمسكم الباردة من صفات …. يا فتاة الشمال الكئيب .

*********************

دخلت إمراءة في عقدها الرابع , يليها زوجها و قد حمل كلٍ منهما بين ذراعيه طفلاً صغيرا … جلسوا , و وضعوا حمولتهم البشرية الغضة على أرضية الغرفة الشديدة البرودة … كلا الطفلين كان حافي القدمين لا يغطي جسده سوى أسمال بالية بالكاد تستر جسديهما …

فوراً طلبتُ من الوالدين و بلهجة زاجرة نادراً ما استخدمها .. أمرتهم برفع أطفالهما عن الأرض … الحقيقة لم تسعفني أعصابي ( الـ سيبرية ) فأطلقت لغضبي العِنان و صببته حمماً على الزوجين ؟؟؟ لماذا الأطفال حفاة و شبه عراة ؟؟؟؟ في هذا الطقس البارد , لماذا تسببون لهم الأمراض و ترمونهم على المركز الصحي الذي لن يفيد دواءه المجاني في علاج إهمالكم …. سبب ثورة غضبي هذه معرفتي بالزوجين , بحكم المدة التي قضيتها في ذلك المكان .. و أن الحالة المادية لهما ليست بهذا السوء الذي يجعل من أبناءهم حفاة و أشباه عراة … كانت المبررات و الحجج الواهية لكلا الزوجين عن حالِ طفليهما قد تراوحت في محتواها بين السخيف جداً و السخيف مطلقاً . مما جعلها سبباً إضافياً ليتجه منحى غضبي صعوداً حتى إصطدم بسقف الغرفة الغاضب , قبل أن يسقط دفعة واحدة على رأسيهما كنيزك جامح ضل مداره .

خرج الزوجان من غرفتي الباردة و هم يتصببون عرقاً من وطىء ما سمعوه منيّ … لا أخفيكم سراً حتى أنا شعرت ببعض الدفئ … لا بأس من ترك عنان الغضب يجمح بين الحين و الآخر .

عادت غرفتي باردة .. بحثتُ عن كِسرات ذاكرتي و شظاياها لأصطلي بها حتى نهاية يوم عملي هذا … بحثت عن ناديا و فاسيلي و أبناء الشمس و هرمون السعادة …. فات الآوان فقد بدأ المرضى يتوافدون إلى صالة الإستقبال … و دائماً مرحباً بهم ….

{{ .. قّد يكّون للحديثِ …. بقيّة .. }}

 

Dr.Walid Sham 

صورة ( 1 ) : الحي الذي كنت أعيشُ فيه – صيفاً

صورة ( 2 ) : … ذات الحيّ – شتاءاً ..

ملاحظة : يبدوا في كلا الصورتين مبنى المحافظة الذي يمكنني رؤيته من نافذة منزلي

8 تعليقات على “ناديا … و أبناء الشمس ( 1 )

  1. وكأننى ارى واشعر ببرودة الهواء وحفيفه ذلك الصوت الذي لا يعكر صوفه وبرودته غير صوت اللهب الذي يكسر تلك الوحدة وهذه البرودة دكتور وليد سعدت بعودتك و استمتعت حقاً بما قرأت هنا وليس كل ما مضى اسود فهو اكثر وانصع بياضا من حاضرنا .. رغم ذلك … وطننا نحن غرب فيه .. فــ معك كل الحق ..

    احترامي

  2. ايه ما أحلى هالذكريات، أدخلتني بجو شديد الجمال، يمكن باتقدم بأحر الشكر من كلماتك أخ وليد، وبالتوفيق بشدنا بجاذبية تفوق جاذبية كل كواكب المجموعة الشمسية لكتاباتك الحلوة. 

    • أشكر إطلالتك الكريمة أيها العزيز و كلماتك الجميلة التي لا أستحقها … دُم بخير .. دُم بعافية .. دُم بسلام ..

  3. حمدلله على عودتك لنا سالما غانما دافئا.

    “لا تجزع يا بنيّ ستبزغ الشمس و يزول حزنك”…………. أعتقد هذه الأيقونة تكفيني وتكفيك!!

  4. السلام عليكم ورحمة الله
    قرأت موضوعك منذ ان اخبرتى به على الفيسبوك
    لكن تاخرت فى التعليق اعتذر

    اعجبنى حماسك واسلوبك كتير هنا وشعرت بحميتك تجاه دينك ووطنك
    ونساء العرب بارك الله في واعزك اخى العزيز

    ((( جميلاتنا غوالي .. لا نريّهن لكم و لا لغيركم … هنّ أغلى من أن نرسلهّن ليبردنَ عندكم … مكانهن بين أشعة الشمس الحمراء و قلوب الرجال السمراء)))
    رائعة تلك الكلمات وهذا الشعور .. احسست بفخر شديد بك ماشاء الله

    سعيدة جدا جدا بهذه الخواطر اخى وليد
    تحياتى لك وباقة ورد بلدى من بساتين بلادى السمراء

    اتابع الجزء الثانى ان شاء الله

    • و عليكم سلاماً من الله و رحمة و بركات :
      مُشتاقٌ أنا .. لولو … لازلت بلا ( انترنت ) .. ياااااادوب شوية { ديل أب } بين الحين و الآخر … سأنتقم من مدونتك حالما يصلني ( انترنت ) و سوف أقرأها ( 7 ) مرات متتالية … يا لولو الشمس
      وداً من أخ في الله

اترك رداً على وليد إلغاء الرد